الاسباب كات متعددة لاختيار هذا التل(1) لبناء المدينة، مع وفرة مصادر المياه، خاصة في راس العين في الجنوب الشرقي من المدينة ونبع اللجوج إلى الشرق، إعتمدت القوافل الأتية من مدن الساحل هذا الموقع كمركز استراحة. وجوده على منتصف الطريق بعد عبور سلسلة جبال لبنان الغربية للوصول إلى المناطق الداخلية والنائية، التي كانت مقصد التجار لبيع ومقايضة منتجاتهم.
بنيت هذه المدينة الفينيقية من الداخل، على هضبة بعيدا عن أخواتها البحرية الموجودة على الروابي الصخرية من الساحل. كانت الديانة لها دورا مهم وبارز في الحياة اليومية، سعى الرجال وراء حماية الآلهة لإرشادهم خلال رحلاتهم وحمايتهم. على عهد الفينيقين، كان المُجَمًع الديني في بعلبك، مثل غيرها من المدن، مُكَرًسْ إلى ثلاثية محلية: الإله بعل-هدّاد إله الرعد والعاصفة عند الساميين، يمثل الخصوبة وتجدد الأرض، الذي بإمكانه تسبيب الجفاف أو إرسال المطر والفيضانات، وفقا لبعض المؤرخين(2)، اسم المدينة مشتق من اسم الإله، "سيد المدينة" ( بعل: سيد بك: المدينة) أو "سيد النبع" (نبك: النبع) أو "سيد باكي" (باكي: البقاع). إلى جانبه على الهيكل نجد الإلهة اتاغارتيس (عشتروت)، سميت أيضا الأم العظيمة. وأخيرا الإله الثالث الشاب الأكثر شعبية (على الأرجح أدونيس)، إله النباتات والمواشي.
بعد وفاة الإسكندر الكبير المفاجئ عام ٣٢٣ قبل الميلاد، من دون وريث لعرشه، اختلف قواده والأقرباء منه على الحكم حتى الانشقاق وانهيار الوحدة الإغريقية. استمرت هذه الحالة لمدة ٤٠ سنة ومن بعدها قُسٍمَتْ الإمبراطورية إلى أربعة ممالك وحصل البطالمة على مصر، ومن ثم فينيقيا وسوريا. خلال الصراع بين البطالمة والسلوقيين (حكام واحدة من الممالك) الذي عرف ايضا "بالحروب السورية" دام الحكم المصري على المنطقة حتى العام ٢١٩ ق. م. وتناوبت المملكتين السلطة على مدن الساحل الشرقي من البحر المتوسط والمناطق الداخلية او "سورية الجوفاء". عندما اندلعت الحروب مع أنطيوخس الثالث، حاكم الإمبراطورية السلوقية، في ١٩٨ ق.م. وقعت أخيرا هذه المناطق تحت حكم الملوك السلوقيين. لكن النزاعات الداخلية استمرت، وانتقل النفوذ من يد إلى أخرى. فأحيانا وقعت المنطقة تحت حكم الفرس والأرمن ومن جديد السلوقيين، وحينا حصلت المدن على نوع من الاستقلالية الذاتية. في نهاية القرن الأول ق.م. خلق اليطوريين مملكة جديدة وكانت مدينة عنجر عاصمتها وأصبحت بعلبك مركزها الديني الرئيسي وطال هذا الوضع حتى وصول الرومان في العام ٦٥ ق.م. تحت قيادة بومبي، المبعوث من قبل مجلس الشيوخ لإنهاء الارتباك الناجم عن الحروب الأهلية، وفرض "الباكس رومانا".
خلال الفترة الهلنستية ( ٣٣٣-٦٤ ق.م.)، وسيما تحت تأثير البطالمة، تحولت عبادة الآلهة إلى ديانة شمسية. الاله بعل اصبح رع (الشمس) المصري المعروف تحت اسم هيليوس عند اليونان الذي أعطى اسمه إلى المدينة هليوبوليس "مدينة الشمس"، كمدينة أون في مصر. تم تعديل باحة المعبد القديم وتوسيعها وتقرر بناء منصة لاحتواء معبد يوناني في اقصى الناحية الغربية. لكن هذه الباحة كانت اعلى من مستوى السهل المحاط بها، فمن الضرورة أن تكون المنصة قوية بما فيه الكفاية لدعم البناء على المساحة الجديدة للموقع (١١٣م× ١٣٥م). نقش ونقل ثلاث صخرات وزن كل منها ٧٥٠طن، المصطفة على أساس الجدار الغربي (المعروفة تحت المصطلح : "Trilithon")، يعود، على الأرجح، إلى ما قبل فترة الهلنستية. حتى الأن، لا يوجد أي دراسة علمية لتأريخ هذا العمل. هنالك ايضا صخرتين ما زالت في المحجر على بعد بعض الكيلومترات عن المعبد ويقدر وزن كل منهما الى ما فوق ١٥٠٠طن. الغريب في هذا الموضوع والأسئلة المتعلقة عند جميع الخبراء والمهندسين وعلماء الأثار: كيف استطاع هذا الشعب وفي ذالك العصر القديم نقل وتثبيت هذه الصخور ؟ بعض الأساطير المحلية تتكلم عن وجود زوار من كون أخر أو جن أو عمالقة وهم الذين نقلوا هذه الصخور. استكمل اليونانين العمل مع حجار أصغر(3)، المنصة هي الأثار الوحيدة التي يرجع تاريخها إلى الفترة الهلنستية. ومع الرومان، أجري توسيع وتجميل المعبد.
في ٦٥-٦٤ قبل الميلاد، وقعت مدن الساحل الفينيقي تحت الحكم الروماني المباشر، ومُنِحَتْ السلطة، حتى القرن الأول الميلادي، على المناطق الداخلية إلى ملوك محليين واطلق عليهم اسم "Tétrarque"(4). على عهد فيسباسيان (٦٩-٧٩م)، أصبحت جميع المدن الفينيقية تحت الحكم الأنطاكي المباشر. بعلبك "هليوبوليس" لم تتعرض إلى نفس المصير حيث ضُمًت، منذ العام ١٥ ق.م. إلى إقليم "جوليا أغسطس بيريتوس السعيدة" (باللاتينية:Colonia Julia Augusta Felix Berytus)، ولم تخضع للسلطات المحلية، لكنها واصلت الحفاظ على علاقات جيدة مع ملوك شالسيس (عنجر) لتأمين المدخل الجنوبي للحجاج الآتين من فلسطين والجزيرة العربية ودمشق(5).
حوالي العام ١٦ قبل الميلاد، على عهد أوغسطس (٢٧ ق.م. - ١٤)، بعد فترة وجيزة من إنشاء المستعمرة العسكرية، قرر الرومان تحويل هذا المركز للعبادة المحلية إلى مركز ذات إطار كلاسيكي عظيم، لإبراز وترسيخ مجد روما وسيطرتها على هذه المنطقة المحتلة مؤخرا، وباشروا بناء المعبد كما نعرفه من خلال آثاره الحالية. المشروع مع مخططاته الهائلة، في حاجة إلى بضعة قرون لإنجازه وتحقيقه كليا. من بين المعابد الثلاثة المنتظرة، شرعت الإنشاءات مع معبد جوبيتير ففي العام ١٦ ق.م.، نفذت الأعمال على عدة مراحل. تحت حكم نيرون (٥٤-٦٨)، كانت الأشغال في مرحلة متقدمة عندما بدئ إنشاء برج المذبح في وسط الباحة. على عهد تراجان (٩٨-١١٧)، خلال زيارة قام بها إلى بعلبك، استهل تصميم وتنفيذ الساحة الكبرى التي لم تكتمل حتى ما يقرب من القرن في وقت لاحق مع أنطونيوس بيوس (١٣٨-١٦١). وعلى عهد تراجان بدأ العمل أيضا في معبد باخوس وانتهى عماره حوالي ١٢٠-١٢٥. وانتهت الأشغال تحت حكم السيفيروس مع معبد فينوس في بداية القرن الثالث على عهد سيبتيموس سيفيروس (١٩٣-٢١١)، ومن ثم البروبيليا، التي اختتمت المشروع مع الإمبراطور فيليب العربي أو ماركوس يوليوس فيلبس (٢٤٤-٢٤٩)(6).
بعد معركة أسوس عام ١٩٤ وانتصاره على بسكينيوس نيجر حاكم سوريا، ومن أجل الحد من سلطة الحاكم السوري ولإضعاف طاقته العسكرية التي كانت تعد كالأقوى في جميع أنحاء الإمبراطورية، قرر سيبتيموس سيفيروس تجزئة المقاطعة إلى قسمين: "سوريا الجوفاء" (Cœlé-Syrie) إلى الشمال مع أنطاكية كعاصمة، والمحافظة الجديدة إلى الجنوب تحمل اسم سوريا-فينيقيا، تشمل الساحل الفينيقي ومدينة صور كعاصمة(7).
أدرك الرومان أهمية الموقع الاستراتيجي لبعلبك، على مفترق الطرق بين الشرق والغرب، ومحطة استراحة للقوافل التجارية في طريقهم إلى المرافئ الأخرى. من هذه المدينة المركزية، يمكن التحكم على جميع مناطق سوريا الداخلية، لذلك قرروا، نحو نهاية القرن الثاني ميلادي، اعتبار بعلبك-هليوبوليس كمقاطعة رومانية واطلق عليها اسم "كولونيا يوليا أوغستا فيليكس هليوبوليس"(8).
اهتمام الإمبراطور قسطنطين (٣٠٧-٣٣٧) بالديانة المسيحية أدى إلى التخلي عن الطقوس الوثنية في الإمبراطورية الرومانية. عبادة جوبيتير-هيليوس تلاشت تدريجيا ومعها التحسينات والأشغال التي اتبعت حتى الآن في معابد بعلبك. هذا التخلي تسبب بالاضمحلال البطيء للموقع، بالإضافة إلى الهزات الأرضية التي ضربت المدينة وألحقت الأضرار بالمباني والأعمدة. ومكافحة الديانة الوثنية لم تدخر الباقي. امر ثيودوسيوس (٣٧٩-٣٩٥) بتدمير وتحطيم التماثيل الوثنية بحيث لم يدم أي اثر لها(9). كذلك كان الأمر بالنسبة إلى البرج-المذبح وقام ببناء كاتدرائية في الساحة الكبيرة وحولت الساحة السداسية ومعبد فينوس إلى كنائس. تحت حكم جستنيان (٥٢٧-٥٦٥)، تم تفكيك ثمانية أعمدة من معبد جوبيتير ونقلها إلى القسطنطينية لتزين كاتدرائية آيا صوفيا.
بعد الفتح العربي عام ٦٣٧، تحولت المعابد إلى قلعة ومن هنا يأتي الاسم الحالي للموقع: "قلعة بعلبك". على مر القرون التالية، مرت المدينة تحت حكم الأمويين، العباسيين، الطولونيين، الفاطميين والأيوبيين. نُهِبَت بعلبك على يد المغول حوالي العام ١٢٦٠، وعادت لتتمتع بفترة من السلام والازدهار في ظل المماليك ولكن سرعان ما تم التخلي عنها من قبل العثمانيين وغرقت مرة أخرى في فترة من النسيان والخراب.
لم يكن بالإمكان المحافظة على بقايا مدينة بعلبك ومجدها السابق دون العنايات التي كرسها مسافري العهود الماضية والحديثة لهذا الموقع. بفضل أعمالهم ومن خلال مداخلاتهم تم إعداد خرائط للمدينة، وتكوين نقوش ورسومات، وبذلك تركوا لنا آثارا وشهادات تدل على عظمة تاريخ هذه المدينة المهددة بالانقراض.
منذ القرن الثامن عشر، أتى الكثير من هؤلاء المغامرين الغربيين إلى بلاد الشرق لاكتشاف عظمة المدينة وما تحوي من الغرائب. البعض منهم مروا على طرقات بعلبك واعجبوا بمناظرها. روبرت وود، عالم الأثار الايرلندي، زار هذا الموقع وكان من الأوائل الذين اهتموا بأثارها وعمل من اجل حفظها عن طريق إجراء دراسة مفصلة عن معالمها التذكارية الرومانية وهذا منذ العام ١٧٥١. من كتاباته: "أطلال بعلبك، مقارنة مع المدن القديمة التي زرناها في إيطاليا واليونان ومصر وكذلك في غيرها من البلدان الآسيوية، تبدو كالمشروع المعماري الأكثر جرأة من التي نفذت حتى الأن"(10).
بعد ثلاثة وثلاثين عاما (١٧٨٤)، عندما زار المستشرق كونستانتين-فرانسوا فولني أطلال بعلبك، أشار بان عدد أعمدة معبد جوبتير قد تراجعت مرة أخرى، وأنها لم تكن أكثر من ستة (تسعة خلال زيارة ر. وود). في العام ١٧٥٩ هدم الزلزال المدمر ثلاثة أعمدة وسبب الكثير من الأضرار على أجزاء مختلفة من الموقع.
الكثير من المسافرين، الرسامين، علماء الأثار وغيرهم من المتخصصين توافدوا على هذا الموقع وتركوا أدلة أو كتابات ورسوم. من بينهم الفرنسيين: لويس-فرنسوا كاساس (رسام-١٧٨٥) وليون ديلابورد (مستشرق-١٨٣٧)، الإنكليزي ديفيد روبرتس (رسام-١٨٣٩)(11). رسومهم ونقوشهم والطابعات الحجرية التي أنتجوها تمثل، بالطبع، قيمة فنية كبيرة، علاوة عن ذلك هي الأهمية الوثائقية والمكانة التاريخية لهذه الأعمال. على الرغم من كل الاهتمام الذي تجلى من العالم، لم يكن الموقع بمنأى عن الخراب. في أواخر القرن التاسع عشر، تكلم صامويل جيسوب، المبشر الأمريكي، عن الحالة المتردية التي يتواجد بها الموقع: "اليوم، تدمير أعمدة وافاريز بعلبك لا ترحم وتتواصل بحرية على جميع أجنحة المعابد. احجار وأجزاء الابنية القديمة تستخدم حاليا لبناء المدينة الحديثة وإعداد الطريق المعبدة الي دمشق. المطران باسيليوس للروم الكاثوليك يبني الآن كاتدرائية عند سفح التل على الجنوب من الفندق عربيد؛ واشترى موقع المعبد الصغير لدحرجت الأعمدة المحزَزة والحجار المكعبة من جدران المعبد إلى أسفل المنحدر لاستخدامها في المبنى الحديث"(12).
في نهاية القرن التاسع عشر، بدئ الاهتمام العلمي للحفاظ على ما تبقى من معبد بعلبك يأخذ مجراه ويستقر. قام "صندوق استكشاف فلسطين" جمعية بريطانية بتمويل اول بعثة في عام ١٨٧٣، للأسف من دون نتيجة فعلية. اول حملة تنقيب جديرة بهذا الاسم جرت مع البعثة الأثرية الألمانية ١٨٩٨-١٩٠٥، عقب الزيارة التي قام بها القيصر فيلهلم الثاني(13)، وتراسها عالم الآثار أوتو بوشستاين. بعد الحرب العالمية الاولى وفي فترة الانتداب الفرنسي، تناوبت وعلى التوالي عدة بعثات تحت اشراف: شارل فيرولو، رينيه ديسو، سيباستيان رونزوفال، أرنولد هنري سيريغ،دانيال شلمبرجير، فرنسوا انوس، بيار كوبال واخيرا بول كولارد. عملت هذه البعثات على ترميم المعابد وصيانة الإثارات. مع استقلال لبنان في عام ١٩٤٣، تولى الدكتور هاروت كالايان مسؤولية الموقع تحت رعاية الأمير موريس شهاب، مدير دائرة الآثار في لبنان.
أعطى هذا الإطار السحري والفريد من نوعه الرغبة للفنانين لإنتاج أدائهم وأعمالهم في الهواء الطلق خلال فصول الصيف. قدم العرض الأول في فترة الانتداب الفرنسي في عام ١٩٢٢، والثاني في عام ١٩٤٤، ومن ثم في العام ١٩٥٥، قدمت فرقة جان مارشا الفرنسية أربعة مسرحيات، التي شجعت المنظمين لإطلاق "مهرجانات بعلبك الدولية" وتأسست لجنة تنظيم خاصة براعية الرئيس كميل شمعون. تتالت العروض المسرحية والغنائية وتوافد العديد من الفرق والفنانين العالمين كالفرنسي جان كوكتو مع "الكوميديا الفرنسية" والممثلة جان مورو في ١٩٥٦، موريس بيجار، ام كلثوم، أوبرا ميلانو، الموسيقار الروسي مستيسلاف روستروبوفيتش، أوركسترا برلين أو نيويورك الخ. ولا بد من أن نتكلم عن السهرات الفلكلورية مع الرحابنة وفيروز ونصري شمس الدين وصباح ووديع الصافي وفرقة كركلا ... لكن هذه العروض توقفت في العام ١٩٧٥ مع اندلاع الحرب الأهلية. منذ ١٩٩٨، استعادت المهرجانات نشاطاتها لتستقبل من جديد مشاهير الفن العالمين مع فرحة الشعب اللبناني.
التكلم عن التواريخ الحديثة لبعلبك لا يمكن أن يكتمل دون ذكر العام ١٩٨٤ حيث أُدْرِجَ هذا الموقع على التراث العالمي للبشرية من قبل منظمة اليونسكو. عزز هذا الاعتراف الدولي مركز بعلبك في العصور القديمة وأهمية أثاراها الفريدة من نوعها وفتح أبواب جديدة للمبادرات لترميم والحفاظ على هذا التراث الاستثنائي.
الوصول إلى معبد جوبيتر، المعبد الرئيسي، يتم من خلال مدخل مهيب يتكون من البروبيليا المهيمنة على أدراج ضخمة(15). البروبيليا تشكل عدة قناطر من ١٢ عمود (عشرة منها رُمٍمَت ونُصِبَت من جديد من قبل البعثة الأثرية الألمانية) يحيط بها برجين(16) معززة بعرقة (ساكف) حجرية معقودة ثلاثية. كان مدخل المعبد يتم عبر باب رئيسي يعلوه قوس نصف دائري، ومحاط ببابين جانبين مسدودة منذ العصر الروماني. هذا القناطر ذات المظهر البسيط اليوم، كانت بالأصل مزخرفة ومزينة. ويفترض علماء الآثار أن خلفية الجدار كانت مكونة من محاريب على مستويين، مع ديكور من القناطر الثلاثية بالتناوب مع قناطر قوسية، مع أعمدة كورنثية في المستوى الأدنى وأيونية في الأعلى. يمكن أنها كانت تتضمن تماثيل لآلهة من الأساطير الرومانية أو أولئك الأباطرة المشاهير. تم تدمير هذه التماثيل المختلفة بعد اعتماد المسيحية كديانة الدولة، ولا سيما في عهد ثيودوسيوس (٣٧٩-٣٩٥).
ثلاثة أبواب تسمح بالوصول من البروبيليا إلى الساحة السداسية الوحيدة من نوعها في الهندسة المعمارية في العالم الروماني وتوحي بأن التقاليد السامية تواصلت وكانت سائدة في المنطقة. هذه الباحة تمثل الفاصل بين المدخل والحرم المقدس الذي كان مكرسا للكهنة، مما يشكل مساحة تسمح للمؤمنين بفترة من التأمل والتفكير قبل الاقتراب من قدس الأقداس. هذا الفناء محاط بأروقة مع أربعة شرقيات (Exèdres : تجاويف قوسية تعلوها قبب) كانت مزخرفة ومزينة بالتماثيل، التي عانت مصير الأجزاء الأخرى من الحرم خلال فترات متعاقبة من التاريخ : التحول إلى مزار لمريم العذراء في العصر المسيحي ومعقل في العصر الإسلامي... في المحراب المؤدي على الساحة الكبيرة وضع نحت نافر لجوبيتر-هليوبوليس الشهير: ملفوف في ثوب ويرتدي قبعة على شكل سلة، يحمل البرق في يده ومحاط من الجانبين بالثيران، الرمز السامي للإله بعل هداد (القليل من التماثيل والنقوش السفلى التي وجدت على الموقع أو بالقرب منه، شردت في جميع أنحاء العالم وتقاسمتها المتاحف المختلفة).
من الفناء السداسي نصل إلى الساحة الكبيرة (١٣٥م*١١٣م)، أكبر حرم على الموقع والمركز الليتورجي الأكثر أهمية. حافظت الساحة على شكلها الأساسي الذي يلتزم ويتوافق مع التقاليد السامية(17)، في وسطها مذبحين على شكل أبراج وعلى جانبيها حوضين للوضوء، اجرى الرومان القليل من التعديلات على المظهر العام لكنهم عززوا الأساسات وخلقوا ممرات عريضة تحت الأرض مع سقوف معقودة لدعم الأبنية الجديدة المرتقبة والأكثر هيبة. على الجوانب الثلاثة يوجد بالتناوب أروقة وشرقيات مستطيلة (٨) ومن ثم هلالية (٤) التي كانت مسقوفة إما بالخشب أو بنصف قبة من الحجر. يشير بعض علماء الآثار وجود عمودين، على اليسار واليمين من الساحة، مذكرا الركنين ياكين وبوعز على مدخل هيكل سليمان في القدس. أما بالنسبة للمذبح-البرج (يرمم حاليا)، التي تقع في وسط الفناء وفي مواجهة مقام جوبيتير، كان يؤمن للزوار القاء نظرة على تمثال الإله المنصوب في وسط السيلا، مع مذبح صغير مخصص للكهنة لتقديم التضحيات. مع امتداد واعتماد الديانة المسيحية عند الرومان، تم تحويل هذا الفناء الكبير إلى بازيليك للقديس بطرس.
من الفناء وللوصول الى حرم المعبد وقدس الأقداس حيث وضِعَ تمثال الاله جوبيتير-الهليوبوليتاني، يتواجد درج مؤلف من ثلاثة أجزاء، على الجوانب مع درجات صغيرة وفي الوسط، الدرجات مكونة من حجار كبيرة. من بناء المعبد وعلى عبر العصور، لم يصمد الكثير من المعالم، على عصرنا الحاضر لا يزال هناك سوى ٦ أعمدة (من اصل ٤٨) كل منها مكون من ثلاثة أقسام، علوها ٢٠ متر (مع القاعدة والرأس)، يبلغ قطرها ٢.٢ متر. يعلو هذه الأعمدة ساكف من ٥ امتار مزخرف مع رؤساء الثيران والأسود الموصولة بواسطة أكاليل صغيرة. من اجل تحضير وإنجاز خطة بناء المعبد، استند علماء الآثار على معبد باخوس (الأفضل حفاظا). مع دراساتهم، تبين أن المعبد كان مستطيل الشكل، وربما كجاره، كان منصوب على طريقة "peripteros"، جدرانه محاطة بالأعمدة : ١٠ في الواجهة و١٩ على الجانبين. معبد جوبيتير ومساحته ٤٨م*٨٨م يمثل اكبر معبد في العالم الروماني. أسلوب هندسته الداخلية كان مماثل لمعبد باخوس مع مذبحه (سيلا) والقاعة الداخلية (بروناوس).
أصغر من معبد جوبيتر، لا يزال معبد باخوس في افضل حالة من الحفظ بالنسبة لباقي أثار الموقع. بني في القرن الثاني الميلادي، مقاييسه مثيرة للإعجاب، فبكبره يتجاوز البارثينون في أثينا، وسعه في الداخل يصل إلى ١٩ متر وبوابته الضخمة علوها ٦,٥ امتار وعرضها ١٣ متر. طول المعبد ٦٩م وعرضه ٣٦م، جدرانه محاطة بالاعمدة "Peripteros" (٨ أعمدة على الجبهة و١٥ على الجانبين). مذبحه (سيلا) محاط ببهو مُعَمًد والقاعة الداخلية (بروناوس) مزينة بثمانية أعمدة مخددة. الأعمدة والقواعد والعواصم الخارجية علوها ١٩م وتدعم السطح المعمد "Entablement" مع أفاريز مزخرفة برؤوس الأسود والثيران. السقف الخارجي الكوفيريد (المصندق) مكون من عناصر زخرفية اقترضت من فن النحت اليوناني الروماني.
داخل المعبد تتناوب أعمدة ذات تيجان كورنثية مع تداخل محاريب (أقواس دائرية في الصف السفلي وتلع ثلاثي في أعلاه)، على الأرجح، كانت تحتوي سابقا تماثيل لتكريم الآلهة. في الجزء الخلفي، يتواجد حرم الهيكل (adyton) حيث نُصِبَ تمثال الإله. كان محور العبادة يدور حول إله شاب (كأدونيس المحلي) الذي كان يمثل الخضار والنباتات وولادة الطبيعة الدائمة. النبيذ وغيرها من المخدرات مثل الأفيون، كانت تستخدم من قبل المؤمنين في أجراء طقوسهم. نسب المعبد للإله باخوس يعود إلى المنقوشات والزخرفة من الكروم والخشخاش التي وجدت على معالمه وحجاره.
تحت حكم المماليك، في القرن الخامس عشر، تم بناء برج في الزاوية الجنوبية الشرقية من المعبد كمقر لحاكم القلعة.
يسمى أيضا المعبد الدائري، لأنه يحتوي على سيلا دائرية. يقع إلى الجهة الجنوبية الشرقية من الأكروبوليس والى الجانب الأخر من الطريق الحالية. يقع المعبد على باحة منفصلة تتضمن معبد صغير آخر يعرف تحت اسم "معبد ربات الفنون"(18) الذي لم يبقى منه إلا بعض الأنقاض. الديكور الدقيق ولباقة المعبد، مع زخرفة المحاريب الخارجية والمنافذ التي تعلوها أصداف بحرية ومزينة بالحمائم، أدى إلى أن ينسب علماء الآثار هذا المعبد إلى فينوس، على الرغم من أنها تمثل الإله الثاني من ثالوث هليوبوليس التي من المفروض أن تحظي، حسب التخطيط الهرمي، بالمركز الثاني (أي باخوس).
بناء هذا المعبد كان أخر ما حقق من الثالوث الهيكلي في بعلبك، يعود إنشائه إلى القرن الثالث ميلادي. يتم الوصول إلى قاعدة المعبد عبر ثلاث درجات كبيرة وواسعة. ونتواجد أمام المدخل في شرفة (بروناوس) مستطيلة ومحاطة بأعمدة (عددها ٨). ويتكون الحرم من سيلا مستديرة حيث تتكرر التجاويف على مراحل منتظمة ومحاطة كل منها بعمودين. السطح المعمد المدعوم بالأعمدة الكورنثية ينحني من عامود إلى أخر لينتهي بإحاطة التجاويف، هذا الانحدار المستمر أدى إلى تقسيم حرم المعبد إلى عدة وحدات متميزة(19) وأعطى للبناء مظهر متناسق ذات الهندسة الأنيقة والوحيدة. خلال العصر المسيحي تم تحويله إلى كنيسة مكرسة للقديسة بربارا التي لا تزال حتى اليوم شفيعة مدينة بعلبك. في الفترة الإسلامية كان المعبد خارج القلعة، تطور وامتداد المدينة حول البناء في القرون اللاحقة، اثرت سلبيا على حالته واصبح يعاني التدهور والتردي. عندما بدأت البعثة الأثرية الألمانية عمليات التنقيب، كان المعبد بأكمله تحت المنازل والحدائق. بين ١٩٣١ و ١٩٣٣، مع فترة الانتداب الفرنسي، أعيد بنائه وترميمه، مع ما تبقى من أحجاره ومعالمه، وعلى ما كان يفترض عليه في الأصل.
ليس من الممكن التكلم عن الهندسة المعمارية لمعابد بعلبك، دون أن نحيي العمل الدقيق والجدي الذي تم القيام به منذ سنوات عديدة مع الاندفاع والحماس من قبل مختلف الفرق الأثرية الوطنية والدولية على حد سواء، لاستعادة وترميم هذه الروائع الاستثنائية. الحرص والاكتراث في حفظ هذا التراث الغني في هندسته وعظمته، الذي يشهد عن الخبرة المعمارية والتاريخ المجيد لهذا الشعب، تدعو إلى الاحترام والإعجاب.
موقع بعلبك، لم يكن الحرم الروماني الوحيد في فينيقيا، بُنيَ العديد من المعابد في مدن ومناطق مختلفة: في سفيرة (قلعة الحصن - قضاء الضنية)، قصر ناووس (عين عكرين-الكورة)، بزيزا (الكورة)، عيدمون (عكار)، كوع المشنقة (علمات-جبيل : معبد لأدونيس وعشتروت)، قلعة فقرا (كسروان)، رأس بعلبك، اللبوة (بعلبك)، دكوة (البقاع الغربي)، نيحا (الشوف)، الفرزل (زحلة)، شحيم (الشوف)، دير القلعة (بيت مري-المتن)... مع تطوير صفحاتنا، سوف نحاول أن نقدم لكم التفاصيل عن هذه الأضرحة المختلفة.
(1) | Tell=colline artificielle formée par les ruines superposées d'une ville ancienne. Roger Saidah, "Archeology in the Lebanon 1968-1969" Berytus XVIII, 1969, p.126. | Retour texte |
(2) | Cf.Nina Jidejian,Baalbek-Héliopolis "cité du soleil", Beyrouth, Librairie Orientale, p.8. Maurice Sartre, "La Phénicie romaine, la puissance de Rome" dans Liban, l'autre rive,Paris, IMA-Flammarion, 1998, p.187. |
Retour texte |
(3) | Cf.Maurice Sartre, Idem, p.189. | Retour texte |
(4) | Les tétrarques de Chalcis sont des souverains vassaux des Romains dont le territoire, Chalcis, fut identifié par René Dussaud dans son livre Typographie histoirique de la Syrie antique et médiévale, comme étant "Chalcis ad Libanum" la localité comprenant la citadelle de Majdel 'Anjar | Retour texte |
(5) | Cf.Maurice Sartre,op.cit, p.187. | Retour texte |
(6) | Liban, les guides bleus, Paris, Hachette, 1975, p.191. | Retour texte |
(7) | Maurice Sartre, op.cit, p.187. | Retour texte |
(8) | Nina Jidejian, op.cit, p.8. | Retour texte |
(9) | Liban, les guides bleus, p.191. Au sujet de la statue colossale de Baalbek, voir N.Jidejian,op.cit ,p.2s. | Retour texte |
(10) | Robert Wood, The ruins of Baalbec, otherwise Heliopolis in Coelosyria, London, 1757, p.6. | Retour texte |
(11) | David Roberts, The Holy Land II, London, F.G. Moon, 1843. Il écrivit : "C'est peut-être le travail le plus compliqué, le plus exquisement travaillé dans ses détails qui puisse se trouver dans le monde. Le crayon ne peut donner qu'une faible idée de sa beauté". | Retour texte |
(12) | Samuel Jessup, "Ba'albek" in Colonel Wilson's Picturesque Palestine, Sinaï and Egypt I, New York, D. Appleton and Company, 1881, p.476. | Retour texte |
(13) | Michel Alouf, History of Baalbek, Beyrouth, Imprimerie Catholique, 1914. Il écrivit: "Tout ce qui avait rapport à l'art et à la recherche scientifique passionnait Guillaume II. Durant sa visite le 10 novembre 1898, il décida de faire connaître au monde et de laisser aux générations futures les plans de ces monuments comme ils étaient à l'origine et dans leur état actuel; et pour protéger les ruines des usures du temps et du vandalisme". Avec l''arrivée des archéologues allemands sous la direction du Professeur Otto Puchstein, les scientifiques français furent consternés, vue la position privilégiée qu'ils avaient toujours eu dans la région surtout suite à la mission d'Ernest Renan en 1860. La question d'Orient et l'intervention des puissances européennes au sein de l'Empire Ottoman commençait dès lors à se manifester sur tous les plans y compris celui de l'archéologie. |
Retour texte |
(14) | Baalbeck, brochure édité par le Ministère du Tourisme du Liban, 1996. Cf. aussi Liban, les guides bleus, p.194s. | Retour texte |
(15) | Pour entrer dans le sanctuaire on accédait jadis par un escalier monumental qui occupait toute la largeur de la colonnade des propylées. Cet escalier fut détruit avec la conquête islamique en 637 pour permettre le creusement d'un fossé, transformant ainsi le sanctuaire en forteresse (qal'a). L'escalier actuel fut aménagé par la mission archéologique allemande. | Retour texte |
(16) | Les deux tours furent également transformées en bastions pour la défense de la forteresse. | Retour texte |
(17) | Cf.John B. Ward-Perkins, Architecture romaine, Editions Gallimard/Electa, Milan, 1994, p.156. | Retour texte |
(18) | "Temple des Muses": parmi les stèles réutilisées sur le site une stèle portait une inscription "Calliope la Terre". Cette muse apparut également comme figure centrale sur une mosaïque trouvée à Soueidié, localité près de Baalbek. es-ce la raison de l'appelation du temple ? | Retour texte |
(19) | Les niches abritaient les statues des diverses divinités honorées, tandis que la statue de la divinité tutélaire du temple se trouvait, non dans un adyton comme dans les 2 autres temples, mais sur un simple piedestal placé au centre. | Retour texte |