الحفريات الأثرية التي أجريت خلال عدة سنوات في جميع أنحاء البحر الأبيض المتوسط، وفي مختلف المواقع، رسخت الوجود الفينيقي وألبوني في معظم المدن الساحلية. ولكن هل ينبغي أن نعتمد فقط على هذه المعطيات الأثرية لإعادة بناء تاريخ التوسع الفينيقي؟
الحفريات الأثرية التي أجريت خلال عدة سنوات في جميع أنحاء البحر الأبيض المتوسط، وفي مختلف المواقع، رسخت الوجود الفينيقي وألبوني في معظم المدن الساحلية. ولكن هل ينبغي أن نعتمد فقط على هذه المعطيات الأثرية لإعادة بناء تاريخ التوسع الفينيقي؟
طرح المؤرخون، ولفترة طويلة، السؤال عن طبيعة التسهيلات والمراكز الفينيقية المتناثرة هنا وهناك في جميع أنحاء حوض البحر الأبيض المتوسط. وحاولوا دائما عبر الدراسات المتتالية، فهم الدوافع التي قادت هذا الشعب إلى تحدي الأخطار والشروع على المياه لاستكشاف آفاق جديدة. للإجابة على هذه الأسئلة كان من الضروري الاعتماد على المرجعين المتواجدين تحت تصرفهم: المصادر المكتوبة من النصوص والوثائق والنقوش القديمة أو المواقع الأثرية.
تكون النصوص القديمة، مثل جميع المحفوظات، مرجعية أساسية للمقارنة مع الأحداث المعاصرة، ولكن يجب أن يتم تحليلها في سياقها التاريخي. وجد المتخصصين العديد من النصوص في المحفوظات المصرية وبلاد ما بين النهرين التي تتكلم عن البحارة الفينيقيين (رحلة اونامون، بعثة الفرعون نخاو، النزهة التي نظمها الارواديين للإمبراطور الآشوري تغلات بلاصر). ونجد أيضا دلائل في كتابات العهد القديم فجسد النبي حزقيال برسومه ثروات مدينة صور حيث قارنها بسفينة في عرض البحر. اما هوميروس فتكلم في الأوديسة عن الفينيقيين، هؤلاء البحارة الماهرة، ووصفهم أيضا بالتجار الماكرين، وحتى بالقراصنة. لكن بين الثناء والنقد، من المهم الفصل بين الحقائق والبهتان، في هذه العهود القديمة حيث الغيرة والحسد والتنافس كانت شائعة ومألوفة.
فيما يخص المعالم الأثرية فكانت ضئيلة، وعلى الرغم من قلة الأدلة المادية، استطاع علماء الأثار في مختلف حفرياتهم العثور على ملامح متعددة عن الوجود الفينيقي وحضارتهم. من بينها القطع النقدية والنقوش التي تمثل غالبا القوارب والسفن. الفخار والسيراميك التي تم استخدامها لنقل المواد الغذائية والمنتجات الصالحة للأكل، وبعض المجوهرات قطع الفن أو الحرفية. . هذه الآثار كانت محدودة والمعلومات المتوفرة تبقى محصورة. وبسبب المنتجات المتداولة فمن المستحيل العثور على آثار عن المحتوى والكميات أو الأماكن المقصودة، فمعظمها كانت للاستهلاك السريع أو قابلة للتلف (الحبوب والزيت والنبيذ، والمنسوجات...) ولا يمكن الحفاظ عليها. أما بالنسبة إلى المنتجات المعدنية، التي يمكن أن تدوم وتتحتمل التآكل الزمني، غالبا ما كان يستعاد استخدامها(1).
انقسم المؤرخون بشأن مسألة الاستكشاف والانفتاح وحاجة الفينيقيين إلى المغامرات والتجارة البحرية. عزا البعض هذه الحالة إلى التضاريس الجغرافية للمنطقة، حيث كانت المدن الفينيقية محصورة بين البحر من الغرب والسلاسل الجبلية اللبنانية الشاهقة إلى الشرق، وبالتالي تقلص أراضيها ومساحتها. ونسب البعض الآخر إلى المواقع الاستراتيجية لهذه المدن، التي بنيت على النتوءات المواجهة للبحر (جبيل، صيدا، بيروت، صرفة، ...) أو على الجزر (أرواد، صور) والميل للارتباط بالبحر الذي بدا حليفا أكثر سهولة لعبره واقل مناعة من سلسلة الجبال والغابات المحيطة. لكن هذه الصورة لم تحظى على إجماع المؤرخين، فأرتئي البعض بان الفينيقيين اعتمدوا الترحل والتجارة البرية والبحرية على حد السواء، فرغم مراكز مدنهم الجغرافية، وصعوبة المغامرة عبر الجبال، تعددت البعثات التجارية أيضا باتجاه الداخل والمناطق النائية الشرقية(2).
وقد اعتمد آخرون رأي مفاده أن الفينيقيين أبحروا للهروب من النفوذ السياسي المحيط والإقليمي (المصري الحثي والآشوري والبابلي والفارسي، ...). فدفعهم حبهم للحرية والاستقلال لاتخاذ الأشرعة وعبور البحار للعثور على أماكن أخرى أكثر هدوءا حيث يمكنهم العيش في حرية وبعيدا عن الظلم والاضطهاد المتكرر من قبل جيرانهم. ولكن هذه الفرضية لا تزال ضئيلة الاعتماد، مع العلم أن غالبية الرحلات التي حققها الفينيقيين كانت مدعومة وعادة ممولة من قبل القوى والنفوذ المتواجدة محليا وبحسب التحالفات السياسية أو العسكرية.
ومع ذلك، فإن الحالة الاقتصادية تبدو الأكثر منطقية والأكثر اعتمادا من قبل المؤرخين والعلماء. مواد الخام لم تكن متوفرة عند الفينيقيين (باستثناء خشب الأرز، والمنتجات الزراعية وتصنيع الموريكس الأرجواني)، فاجتهدوا البحارة في البحر الأبيض المتوسط بحثا عن مناجم الفضة والقصدير والنحاس. تم شراء هذه المواد الأساسية للصناعة، بسعر منخفض وبعد ذلك، شحنت ونقلت ومن ثم تم معالجتها وتصنيعها لإعادة بيعها في جميع أنحاء العالم القديم وذلك بأسعار أعلى بكثير من تكاليفها. كتب ديودورس الصقلي، المؤرخ اليوناني، حول هذا الموضوع: "إن بلاد الأيبيريون تحتوي الأكثر عددا من اجمل مناجم الفضة التي نعرفها. السكان المحلين كانوا يجهلون استخدامها، فعندما وصل الفينيقيون للتجارة، بادلوا الكثير من الفضة الخام في مقابل كمية صغيرة من البضائع. من ثم، هؤلاء الفينيقيون، نقلوه إلى اليونان وآسيا والى غيرهم من الشعوب، وباعوه واكتسبوا ثروات كبيرة".
الباعث الرئيسي الذي حبذ الفينيقيين ودفعهم الى المغامرة كان حبهم للاختلاط والاتصال والتبادل. وبسبب مهارتهم في الملاحة، جهد هؤلاء التجار لربط البحر والبر. وسعوا لإنشاء شبكة من الأسواق لبيع وتبادل سلعهم في جميع أنحاء البحر الأبيض المتوسط. أسسوا مراكز تجارية عديدة وتقع على مسافات صغيرة من بعضها البعض لتسهيل عمليات التوقف بين الرحلات والتموين وشحن اللوازم والإمدادات. يمكن تسميت المعاملات الفينيقية "إعادة توزيع تجارية" وذلك على عكس اليونانيين الذين كانوا يتاجرون بدافع الغرس والربح المالي. كان الفينيقيون أيضا ودائما في البحث عن الأسواق الجديدة، وكانوا الناقلين ووسطاء العالم القديم.
هذه المغامرة البحرية تتطلب، بالإضافة إلى الشجاعة والدوافع الاقتصادية، معرفة تقنية عميقة وواسعة في حقل الملاحة. فمن المطلوب أيضا خبرة كبيرة في بناء السفن والقوارب المتوافقة، في تلك الأزمان، مع الوجهات والأماكن المقصودة وبحكم صعوبة عبور المياه وللصمود في وجه تقلبات البحر والطبيعة.
من اجل النجاح في الاضطلاع البحري والتجارة، كان على الفينيقيين ان يعتمدوا او بالاحرى ان يتصرفوا مع ثلاثة عوامل: الاستخدام الجيد للجزر، الاستفادة من التيارات البحرية والعوامل الطبيعية، وثالثا استعمال القوارب والسفن المتينة وسهلة القيادة. في البداية، تم اكتشاف البحر بفضل رحلات على مراحل قصيرة، من خلال تطبيق مبدأ الملاحة الساحلية الصغيرة. وذلك بالابحار بالقرب من اليابسة، وعلى مرئى من الساحل، وربط الميناءين في غضون ٢٥ إلى ٣٠ ميلا بحريا. فاستخدم البحارة، لهذه الغاية، القوارب الصغيرة ذات القدرة والحمولة المحدودة، تلك التي تتوافق مع المسافة المقصودة والمواد المحملة.
بغاية توسيع نطاق الملاحة، بدأ البحارة الفينيقيين الاقتراب والتوقف على شواطئ الجزر التي كانت على مساراتها بين مدنهم ووجهاتهم من الأجزاء الأخرى من العالم القديم. الكثير من هذه الإمكانيات تتوافر في البحر الأبيض المتوسط. في الحوض الشرقي، ترتبط القارات الثلاثة (أوروبا وآسيا وأفريقيا) إلى بعضها البعض من خلال العديد من الجزر المتواصلة التي تسمح بتقصير الخطوات وخاصة في النصف الشمالي حيث الملاحة صوب الغرب تمر بجزيرة قبرص وساحل آسيا الصغرى وكريت وجزر بحر ايجه. ومن المعروف إن قدموس تتبع هذه الطريق، عندما ابحر إلى اليونان بحثا عن أخته الأميرة أوروبا التي اختطفها زيوس.
أما ما بعد الجزر اليونانية، فقد أصبحت الخطوات أطول. تم اعتماد وتطبيق نظام الإبحار الطويل المدى، الذي كان ينفذ على مسافات أبعد بكثير من الساحل مع الحفاظ قدر الإمكان على رؤية اليابسة. أثناء الليل، عندما كان الطريق البحري لا يسمح للتوقف، استعمل الفينيقيون علم الفلك لتوجيه سفنهم بالاستناد على مواقع النجوم، وعلى وجه الخصوص بمراقبة كوكبة الدب الأصغر والنجمة القطبية، المعروفة في العالم القديم تحت اسم النجمة الفينيقية. من ناحية أخرى، كان ينبغي على هؤلاء البحارة التوقف بانتظام، وخاصة من اجل الإمدادات الغذائية وإذا اقتضى الأمر، للتصليحات(3). وبالتالي انتشرت المراكز والمرافئ الفينيقية في جميع مناطق البحر الأبيض المتوسط وما وراء أعمدة هرقل، مضيق جبل طارق الحالي.
تكونت الزوارق الفينيقية من أنواع مختلفة وأبحرت مع الشراع المربع. كان التجذيف مخصص للمناورات البحرية، الدخول أو الخروج من الموانئ، تغيير اتجاه، عمليات الاقتحام. كانت سفن النقل، المستخدمة للأنشطة التجارية، عريضة وواسعة وتسمى "gauloï" (مستديرة) في اللغة الإغريقية، بسبب شكل هيكلها الكروي والدائري. كانت قدراتها كبيرة جدا، ومقاييسها تتراوح بين العشرين والثلاثين مترا في الطول وعرضها بين الستة إلى السبعة أمتار. كانت المؤخرة أيضا مستديرة وتنتهي بزخرفة تمثل ذيل السمكة أو شكل حلزوني. غالبا ما زينت مقدمة السفينة بالخطوط المنحنية مع إفريز حيوانية (رأس الحصان أو فرس البحر)، ورسم على جوانبها عينين التي كان لها قيمتين رمزيتين: جعل الطريق مرئية ولترعيب وإرهاب الأعداء.
كان الدفع البحري لهذه السفن وتسييرها يؤمن بواسطة شراع وحيد ومربع مثبت على الصاري الرئيسي بواسطة عارضة من الخشب، التي تسمح بتوجيه الشراع حسب الرياح والمقصد. تعتمد الملاحة على الدفة المكونة من مجذاف كبير مع شفرات غير متوازية ومتجهة على اليسار وبالقرب من المؤخرة. ملجأ الطاقم المكون من ٢٠ بحار كان يتواجد على الجسر وكذلك المطبخ.
من ناحية السفن الحربية، كانت أضيق من السفن التجارية. كانت المؤخرة مماثلة لتلك التي من السفن التجارية في حين اختلفت المقدمة بشكل ملحوظ وشكلت أهم جزء من السفينة. فكانت تمثل سلاح هجومي للقتال ومجهزة بالمهماز الذي غالبا ما كان من البرونز وغايته كسر وتحطيم جوانب سفن العدو. وكان دفع هذه السفن الحربية أكثر تعقيدا، لأنه كان لا غنى عنه خلال المعارك، من اجل المناورات الحربية السريعة وتغيير المسار لمفاجأة العدو وضربه بالمهماز، وأيضا لتجنب الضربات والهجمات . لهذا السبب، جهزت تلك السفن بصاريين وشراعين، الأول في وسط السفينة مجهز بالشراع الكبير والآخر اصغر حجماً ويقع إلى الأمام، والذي كان يؤمن توجيه السفينة حتى مع الرياح المتعامدة.
تعد سفينة البنتيكونتور "pentécontore" أو القادس ذات "الخمسين مجذاف" أقدم وأبسط السفن الحربية الفينيقية . يبلغ طولها حوالي ٢٥ مترا، وعلى متنها طاقم من ٥٠ مجدف (متوزعين بالتساوي على كلا الجانبين)، بالإضافة تواجد أيضا القائد، والثاني، والسائق وباقي البحارة الذين يهتمون بالأشرعة وعددهم لم يتجاوز العشرة. أما القادس الأكثر شهرة يبقى "الثلاثية المجاذيف" سيدة البحر الأبيض المتوسط بلا منازع بين القرن السابع والثامن قبل الميلاد، هذه السفينة كانت مجهزة بثلاثة صفوف من المجاذيف ويمكن أن تستوعب طاقما من نحو ١٨٠ رجل. تطورت هذه السفن الحربية مع مدينة قرطاج وأحواضها الحديثة، لتصبح "رباعية أو خمسية المجاذيف". كانت طواقمها تتجاوز على التوالي ٢٤٠ و ٣٠٠ رجل تعيين إلى ٣٠ مجذاف على كل جانب وكل صف، بالإضافة إلى القادة والجنود والبحارة لعمليات مناورة الأشرعة وتوجيه السفينة. تراوحت السرعة القصوى بين ٥ و ٦ عقدة بحرية من خلال الاستخدام المتزامن للأشرعة والتجديف وذلك على مسافات قصيرة(4).
توصل علماء الأثار إلى توفير معلومات جديدة عن الحياة اليومية عند الفينيقيين وذلك بفضل بقايا الفخاريات التي وجدت في بعض المساكن، وبفضل الأواني المتوفرة في المدافن. وأنها أسفرت أيضا عن اكتشاف بعض تقاليدهم وخاصة الطقوس الجنائزية ودراسة تجارتهم والحرف اليدوية التي مارسوها وبرعوا فيها.
كما سبق وأشرنا عليه في المقالة عن الفن الفينيقي، كانت السيراميك الفينيقية مستمدة ومستوحاة من الفخار السرياني الفلسطيني المنتج في نهاية العصر البرونزي. بعيدا عن الزخرفة الفنية دقيقة من الفخار اليوناني، بقيت أشكال الإنتاج الفينيقي بسيطة ولكن عملية من اجل الاستعمال اليومي. كانت رسومات الفينيقيين على جميع أنواع الجرار متطابقة ومتشابهة ومن ثم جرى تزينها بطرق مختلفة. أدوات المائدة أو تناول الطعام كانت مصقولة أو ملمعة جزئيا أو كليا. يمكننا أن نميز عدة أنواع: المغلفة بطلاء أحمر أو أسود، أو تلك المزينة بطلاء اسود مع خلفية حمراء أو طلاء ابيض على تلك الخلفية قشدية اللون.
من حيث الأشكال، فإنها كانت محدودة وتقتصر في وجود مقبض أو قائمة. استخدمت هذه النماذج في الحياة اليومية والتجارة وكذلك في الطقوس الدينية والجنائزية. كان للبعض من هذه الأدوات وظائف متعددة، على سبيل المثال، الخوابي الكبيرة التي كان من الممكن استخدامها في التجارة (نقل المواد الغذائية والنفط أو النبيذ)، ومن ثم للاستخدام المنزلي (خزان للمياه) و بعد ذلك تم استعمالها بمثابة صندوق عظام الموتى أو تابوت للأطفال.
تألف الفخار الفينيقي من العديد من النماذج التي يمكن تجميعها في شكلين:
- الأشكال المفتوحة: أكواب وفناجين، الأطباق، الأواني، المدقات... التي كانت تستخدم خصيصا للمطبخ والطعام:
- الأشكال المغلقة: الجرار، والأباريق... وكان القصد منها لنقل الحبوب، وزيت الزيتون، والنبيذ. والزجاجات الصغيرة للعطور والمراهم، ومصابيح الزيت التي كانت مجهزة (على شكل الصدفة) مع فوهة أو اثنتين:
سوف نتحدث عن تطور الخزف الفينيقي في المقالات المستقبلية، وخاصة مع تأسيس قرطاج، التي ساهمت على إنتاج العديد من الأشكال الجديدة التي أكسبته اسم الفخار الفينيقية الغربية أو البونية.
"أولئك الساكنين في أرض كنعان، والإغريق، على وقت هوميروس، علمونا أن هؤلئك المسميون الفينيقيون قد استفادوا من الآثار الناجمة عن الغزو الرهيب من قبل شعوب البحر حوالي ١٢٠٠ ق. م وسقوط السلطة السياسية البحرية الميسينية. وكان ذلك على فجر العصر الحديدي، حيث كان البحر الأبيض المتوسط مهجور. فاستغل الفينيقيون الظرف، أولئك الذين كان لديهم بحرية مميزة من خلال التقدم التقني في مجال الملاحة، يبدو أنها نجحت قراءة هذا الجو المناسب وفي وقت مبكر. وبعد فترة طويلة من الملاحة الساحلية، شعرت البحرية الفينيقية بقدرتها على مواجهة أعالي البحار"(5).
يتضمن هذا المقطع مع أسطره القليلة، جميع الأسباب والدوافع التي أدت إلى ترك الفينيقيون مدنهم وخوض البحار. لكن السؤال الذي بقي المؤرخين وعلماء الآثار منقسمين عليه ولمدة طويلة، هو في ما يتعلق بتواريخ وأعمار المرافق الفينيقية على البحر المتوسط. دافع البعض عن التفوق الفينيقيين بينما اعتمد الآخرين إن هذه المرافق تعود لفترة الإغريق. بفضل الاكتشافات والدراسات التاريخية الجديدة في العديد من المراكز الأثرية الفينيقية، تعززت الفرضية الأولوية وادت إلى جزم أقدمية التوسع والوجود الفينيقي.
كان الغرض عند الفينيقيين اكتشاف الأراضي الجديدة والحصول على المواد الأولية لتعزيز منتجاتهم وتجارتهم. كانت هذه المراكز تقتصر على مرافق صغيرة ذات المساحات الصغيرة حيث كان بإمكانهم التزود بالوقود والمؤن والمياه وغيرها من المواد قبل متابعة شحناتهم. وكانت الحركة الزراعية كعامل مساعد لهذه المراكز لضمان الإمدادات الغذائية. على عكس الإغريق الذين استقروا في المستعمرات، استخدم الفينيقيون هذه النقاط كمراحل خلال رحلاتهم(6)، ومن اجل تسهيل المبادلات والتعامل مع السكان المجاورة. ودائما ما كانت هذه المراكز مبنية حول حرم مقدس الذي كان يمثل نواة الوجود الفينيقي وبذلك وضعوا أنفسهم وأملاكهم تحت حماية الإله الشفيع (عشتروت، بعل، ملكارت...).
كما أشرنا أعلاه، بداية المغامرة الفينيقية كانت تقتصر على الملاحة الساحلية. واستند أول توقف حقيقي خارج الشاطئ الفينيقي حصل في جزيرة قبرص التي عرفت فيما بعد بجزيرة النحاس. تشير الحفريات أن الوجود الفينيقي يعود إلى ما لا يقل عن القرن التاسع قبل الميلاد. كانت مدينة كيتيون تمثل المركز الرئيسي، وانشأ الفينيقيون العديد من المرافئ وعلى مدار الجزيرة، بافوس، تاماسوس، ايدالیوم وغيرها.
بعد قبرص، غامر البحارة الفينيقيين في جزر بحر إيجة. يذكر هوميروس المراكز التجارية، ونقاط الدعم التي أسسها التجار الفينيقيين. تتواجد بعض آثار في بعض الجزر، كريت، وابية، وجزر دوديكانيز، ويعود تاريخا إلى فجر الألفية الأولى قبل الميلاد(7). بين الأسطورة(8) والحقائق التاريخية، يمكننا أن نقول ونؤكد أنه خلال هذه التبادلات والعلاقات نقل الفينيقيون أبجديتهم إلى الإغريق الذين استخدموها وكيفوها لخلق لغتهم الخاصة وتعميمها.
على مر السنين تكاثرت المرافق الفينيقية في جميع أنحاء البحر الأبيض المتوسط. قصة اونامون تشير عن نشاط السفن الأتية من مدينتي جبيل وصيدا إلى ميناء تانيس، عاصمة الفراعنة الجديدة، الواقعة على دلتا النيل وذلك قبل بداية الألفية الأولى. كما أن هيرودوت تحدث عن وجود "معسكر" لأهالي مدينة صور ومعبد لعشتروت في ممفيس.
بالإضافة إلى مصر، انشأ الفينيقيون عدة مراكز تجارية ومدن على ساحل شمال أفريقيا. في ليبيا: يتواجد بالقرب من طرابلس الحالية مقابر تعود إلى القرون الثالثة والثانية قبل الميلاد. في تونس: مدينة قرطاج، المنافسة للإمبراطورية الرومانية، من اكبر واقوى المدن في العالم القديم، مدينة لمطة، مدينة هدروماتوم (سوسة الحالية)، أكولا ، وهيبوأكرا (بنزرت الحالية). في الجزائر، إكوزيوم (مدينة الجزائر الحالية)، إيول (شرشال الحالية) ، مدينتي الأندلسيات وسيرتا. في المغرب، راسدير (مليلية الحالية)، مدينة ليكسوس على ساحل المحيط الأطلسي، مدينة سالا و موكادور (أغادير). في جميع أنحاء تقدمهم، استقر أيضا الفينيقيون في الجزر والأماكن الاستراتيجية المتواجدة على طرقهم والمهمة في سعيهم لاكتشاف المناطق الجديدة والنائية. اسسوا في مالطا مدينة تاس سيلج (قرب مدينة مرسكسلوك الحالية)، ومدن ربات ومدينا. في صقلية: موتيا وسولوس وباليرمو. في سردينيا: كالياري، تاروس، نور. للوصول إلى إسبانيا، بلاد المعادن الثمينة (الذهب والفضة) حيث بنوا قادس وإيبيزا. وعبرت السفن الفينيقية أيضا أعمدة هرقل لترسو على الجزر البريطانية في بريتاني وكورنوال بحثا عن مناجم القصدير.
بالعلاوة عن الرحلات التجارية، سعى الفينيقيون لاكتشاف آفاق جديدة والابحار صوب الأماكن المجهولة في تلك العهود. تم إنجاز العديد من الرحلات الاستكشافية بدعم مالي ومشاركة حلفائهم الأثرياء والفعاليات الإقليمية والعالمية. بين هذه الرحلات يمكن أن نذكر تلك التي أنجزت حوالي القرن العاشر قبل الميلاد، بالتعاون بين الملك حيرام من صور وسليمان بحثا عن الذهب، نحو بلاد أوفير، التي من الأرجح، أنها تقع في شرق أفريقيا أو في الهند. تشير الاكتشافات الأثرية الجديدة إن ميناء المغادرة لربما كان يتواجد في خليج العقبة، من احدى المراكز التجارية الفينيقية(9).
رحلة أخرى، وذلك لاكتشاف شواطئ أفريقيا الجنوبية، تم تمويلها من قبل فرعون نخاو الثاني في نهاية القرن السابع قبل الميلاد. وفقا لهيرودوت، انطلقت هذه الرحلة من ميناء مصري على البحر الأحمر، لتتجاوز رأس أفريقيا الجنوبي أو رأس الرجاء الصالح، صعودا لتتابع الساحل الغربي لأفريقيا، للوصول، بعد ثلاث سنوات من مغادرتهم، إلى أعمدة هرقل (مضيق جبل طارق). ولم يتسن التحقق من هذه الرحلات بطريقة علمية ولكنها تشهد على السمعة المكتسبة من قبل المستكشفين الفينيقيين واعتماد الشعوب القديمة على مهارة البحارة الفينيقيين لعبور البحار وتجاوز الصعوبات والممرات الخطرة لاكتشاف مناطق مجهولة بحثا عن موارد جديدة. بالإضافة إلى هذه رحلتين، هناك تلك التي قام بها بحارة قرطاج، ومنها رحلة هملكون حول الساحل الشمالي الغربي الأوروبي للوصول إلى الجزر البريطانية (شبه جزيرة كورنوال) وإيرلندا، والرحلة الاستكشافية الشهيرة للملك حانون، الذي غامر في مياه المحيط الأطلسي، في القرن الخامس قبل الميلاد. تأكد واقعية هذه المغامرة الأخيرة من خلال المعالم الطبيعية الموصوفة على جدران معابد قرطاج والأثار الموجودة على الساحل المغربي وخاصة موكادور. خلال الأعوام ما بين ٢٠٠٨ و ٢٠١٠، وللتأكيد من صحية هذه الرحلة، قامت بعثة بحرية على متن السفينة "الفينيقية" بقيادة فيليب بيل بإنجاز نفس المغامرة على سواحل أفريقيا الغربية، في نفس الظروف التي تعرض لها الفينيقيين خلال رحلتهم في العام ٦٠٠ قبل الميلاد.
(1) | Cf. Gras, Rouillard & Teixidor, L'univers phénicien, Editions Hachette, 1995. | Retour texte |
(2) | Cf. F. Briquel Chatonnet & E. Gubel, Les Phéniciens aux origines du Liban, Gallimard, 1998. | Retour texte |
(3) | Cf. P. Bartoloni, "Les Navires et la Navigation", dans Les Phéniciens, sous la direction de S. Moscati, Stock, 1997. | Retour texte |
(4) | Ibid. | Retour texte |
(5) | M.H.Fantar,"les Phéniciens et la Méditerranée" dans Liban l'autre rive, p.117. | Retour texte |
(6) | Cf. M.Gras et autres, op.cit., p.140. | Retour texte |
(7) | Cf. F.B-C. & E.G., op.cit., p.93. | Retour texte |
(8) | La légende de Cadmos parti à la recherche de sa sœur la princesse Europe enlevée par Zeus. | Retour texte |
(9) | Cf. F.B-C. & E.G., op.cit., p.89. | Retour texte |